بائع البالونات بقلم مهدي المبدر

قصة قصيرة
*بائع البالونات

امتهن "نون" بيع البالونات الملونة ولعب الأطفال والحلوى، التي كان يحملها على سطحِ عربتهِ الخشبية، ويتجول بأزقة المدينة ودروبها الضيقة، والأسواق والساحات، والتوقف في الحدائق العامة، ومدن الألعاب، فحيثما وجد الأطفال كان "نون" حاضرًا بعربتِه، وأينما كان"نون" تحلّق الأطفال حوله؛ يشترون البالونات والحلوى والألعاب، حتى أحب الأطفال "نون" وصاروا يتبعونه ويشترون منه أنى ذهب.
 ورغم أنه تجاوز العقد الرابع من عمره، وهو يعيش وحيدًا، ولم يتزوج، إلا أنه كان يفيض نشاطًا وشبابًا، لا تفارق الابتسامة والنكتة محَيَّاه. وبعزمٍ وإرادة لا تلّين كان يواجه مصاعب حياته الصعبة، ولنون روح شفّافة، طفولية عميقة الصدق...بريئة تحزن وتفرح من القلب، أضافت لهُ رصيد من الإحترام والانسجامِ والمحبة، ليس فقط من أهل الحيّ الذي يسكن فيه وحسب؛ بل المدينة كلها، ويعتقد الكثيرون أن هذه الخصال الحميدة والطيبة التي قل نظيرها _هذه الأيام_ قد تشربت بـ نفس نون؛ نتيجة لأحتكاكه الدائم بالأطفال، فكثيرًا ما رأى أهل المدينة "نون" بالصدفة؛ وهو يهدي البالونات والحلوى والألعاب للأطفال الذين لا يملكون ثمن شرائِها، بل وكيف كان يغض الطرف عن الأطفال الذين يسرقون من عربته قطع الحلوى والألعاب، الأمر الذي دائمًا ما يعالجة بإبتسامة ودودة غير مبالية، ولشدةِ تعَلّقه بالأطفال كان "نون" دائمًا  يلّهج بقصصِهم، فهو يسرّد  على رواد مقهى المدينة؛ الذي يرتاده كل يوم بعد منتصف النهار؛ أنواع من مغامرات الأطفال بالإضافة ِ الى نصائحٍ ممزوجة بمشاعر أبوية، يدعو فيها الآباء والأمهات إلى ضرورة الاعتناء والاهتمام بأبنائِهم...
ولا يزال "نون" يعيش أعوامًا مرحة وسعيدة بعربتهِ الخشبية، التي يبيع فيها البالونات والحلوى على زبائنهِ الأطفال، حتى مَرض وأصيّب بحمى شديدة أقعدّته الفراش، في بداية مرضه أخذ أهل المدينة يتوافدون على زيارته، ويعرضون عليه مساعدتهم، إلا أنّه كان يشكرهم ويحمدالله على طيبة أهل مدينته، مرددًا بينه وبين نفسه بأن سيبقى بخير ما دام يعيش في هذه المدينة الطيبة، وفي كل مرة كان "نون" يوصي أهل المدينة الذين يتناوبون على زيارتهِ بأن يُبلّغوا أطفالهم بأنّه سيعود للعمل قريبًا، ولكن مرت الأيام ولم تزد حالة"نون" إلا سوءًا، ومعها شَح مجيء أهل المدينة للإطمئنان على حالتِه، حتى شاع في المدينة فجأة: أن"نون" يعاني من مرض معدّي قاتل ، ليس له علاج، ليواجه "نون" بعدها معاناة بليغة وألم مضاعف يفوّق ألم مرضه،  ومع مرور الوقت وجد نفسه عاجزًا عن شراء وجبة صغيرة يُخرس بها جوعه، الأمر الذي جعلّه يتحامل على المرض ويخرج للعمل، وبمشية الجنود المتعبيّن؛ عاد "نون" يدفع بعربتهِ ويتجوّل بأزقة المدينة، وقد تفاجئ بأهل المدينة؛ وهم يتجاهلون تحاياه، وينفرون من عربتِه، ويغيرون طريقهم لئلا يمرون بالقرب منِها، ليقف"نون" بعدها عاجزًا عن فهمِ ما يحدث،  لكن الأمر الجلل الذي جعل "نون" يختنق بحصرتهِ، ويغص بدمعتِه، بكاء الأطفال الذين حرمتهم أمهاتهِم وأحكمت منعهم؛ لئلا يشترون البالونات والحلوى من عربته.
 وفي منتصف النهار وعندما حاول"نون" دخول المقهى الذي اعتاد قضاء وقت استراحته فيه، انصدم برواد المقهى وهم يمنعونه من الدخول، وعندما دخل "نون" المقهى غير آبه لمنعهِم له، تدخل صاحب المقهى  وأسكت الضجّة التي أحدثها "نون"، بطرده "لـ نون" خارج المقهى، وتعهده للزبائن بأنّهُ سيشتكيه لشرطة المدينة إن عاود المجيءَ مرة أخرى، عاد "نون" إلى الشارع يدفع بعربتهِ، مطاطئ الرأس، شاعرًا بالأسفِ والحزن، واتجه للبناية التي فيها شقتِه، وحين وصل كان يمشي بصعوبة، وقد صعد السلّم يجر بساقيّه، كأنهما مربوطتان بأغلالٍ من حديد، وعندما أخرج المفتاح لفتح شقته، صرخ عليه الحارس وحذره من فتح الباب، قائلا له: لقد ورد لي أمر من مالك البناية بعدم السماح لك بدخول الشقة، فأرجوا أن تخرج فورًا، وتبحث عن سكنٍ آخر.
أراد"نون" أن يجادل الحارس بأي شيء، وقد أنتظر الكلمات تسعفه، إلا أنّها خانته ولم تصل إلى لسانه، فلم يجد شيء آخر يرد بهِ على الحارس غير الدموع. وبعد يوم مرعب لـ "نون" شعر بأنّه أصبح وحشًا كريه المنظر موصومًا بالعار، سارًا في شوارع المدينة على غير هدى، حيث لم يعد لهُ مكان يأوي إليّه، ولا أحد يستقبله، ولا مورد رزق يقتات منه... وحين داهم"نون" الليل المصحوب بتعبٍ ثقيل،  وجد نفسه متوسد صرّة ملابسة، يصارعهُ النوم وهو مُمد على سطح عربتهِ الخشبية، يسأل القمر عن حال الأطفال الذين أرادوا الشراء منه؛ فمنعتهم أمهاتهم.
بعد ذلك اليوم اعتاد "نون" على افتراش الأرض، وأمسى لا يبالي إن تغطى بصحيفةٍ رموها قرأؤها، أو تناول أطعمة فاسدة من المزابل، حتى تشرَّدَ في شوارع المدينة، يفرّ منه البشر كلما رأوه خوفًا من أن يصابوا بداءهِ القاتل، إلا الأطفال الذين لم يفهموا هذا المرض، كانوا يقتربون خلّسة من "نون" ويسألونه متى يعود لبيّع الحلوى والبالونات لهم، حتى أن بعضهم كان يخرج لـ "نون" أوراق نقدية على سبيل الإغراء، ولكن "نون" كان دائمًا ينأى عنهم، ولا يرد على أسئلتهم، الأمر الذي يُزيد من حزن أطفال المدينة، وبمرور الأيام أصبح الحديث عن مرض"نون" الخطيّر أكثر رواجًا في المقاهي والأسواق والجلّسات، تتناقله ألسن أهل المدينة كّما تنتقل الكرة من لاعب لآخر، كُلّن منهم يحاول إضافة لمسةِ الخاصة.
 وقد كثرت الإقتراحات بكيفية حلّ مشكلة "نون" بعضهم أكد على ضرورة أبعاده عن المدينة، وآخرون فضلوا أن يتم حرقه ونثر رماده في البحر، حتى لا تنتقل العدوى وتفتك بأهل المدينة. و شاهد"نون" كيف يصّب أهل المدينة البنزين على عربته ويحرقونها وسط المدينة، فتغدو رمادًا كئيب، جعل هذا "نون" يعاني من غربةِ الأمكّنة، ولا يجد مكان غير محرقة عربتهِ يستوطنه، حتى صار يجلس لأيام طويلة ممدًا وسط الرماد من الصباح إلى الصباح، يصرخ من غرار قلبه، ولا أحد يأبه لأنينهِ وبكاءه، ألا أطفال المدينة الذين كانوا وحدهم من يبكي معه، الأمر الذي كان يثير حنق أهل المدينة، فيشتكونه  للشرطة وبإحتياطات أمنية وصحية مشددة، كانوا يرجعونه إلى مكب النفايات، المكان الذي أصبح وبمرور الأيام الملجأ الوحيد لـ "نون"  وأطفال المدينة بعدما ضاقتْ المدينة والدنيا بهم.
#مهدي_المبدر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دعني احبك كيفما اشاء بقلم ختام عمر

ليت أنفاس أيلول تدرك اني انتظرك. بقلم شبيلة مطر