رجل صغير. بقلم محمد أكزناي
رجل صغير
- 1 -
تحول عبد الله من مرحلة التعليم الابتدائي إلى المرحلة الإعدادية، شكل تحولا جذريا في الطفل الذي كانه، تحولا شمل سياق الأحداث وأمكنتها، وكانت أول نقطة للتحول الإمتحان الموحد الذي أجري بعيدا عن مدرسته الفرعية بالمركز بخميس أنجرة..يتذكر يوم الامتحان فيتبسم عندما يجول في خاطره أنه أول يوم اكتشف فيه الأيس كريم فقضمه بأسنانه وسط ضحكات الزملاء..
نجح عبد الله وتغير مكان الدراسة، وفضاء الحياة من البادية بطبيعتها وشساعتها إلى المدينة باسمنتها وضيقها، تغيرت الروائح من عبق الأزهار والخزامى والزعتر إلى أدخنة السيارات والمعامل، وتغيرت الأصداء المرافقة من سمفونية الطبيعة إلى ضجيج المدينة، لكن التحول الأصعب تحملا كان الانتقال من ألفة الأسرة إلى الغربة، من تجمع الوالدين والإخوة إلى وحدة وسط الآخرين..
قضى ليلته الأولى بعيدا عنهم من غير نوم، يسمع من حين لآخر عربدة سكير أو صوت سيارة بينما اعتاد أن يسمع ليلا نباح الكلاب وصوت الطبيعة، أما أمه فقضت تلك الليلة باكية، إنها أول ليلة يقضيها بكرها بعيدا عن المنزل..
كانت تطوان التي انتقل اليها عبد الله بداية التسعينات حكاية أخرى، فمعلوم أنها مدينة حضارية بامتياز فضلا عن أنها مدينة العلم والعلماء والشعر والشعراء..
لاحقا مع النضج وتقدم العمر سيكتشف عبد الله أن القاسم المشترك بين تطوان وجهنم هو عدد الأبواب، لكنه عدد فقط يعبر عن التباين لا التقارب، والتنافر لا التشابه، فبمقدار ما تفتح أبواب جهنم على الجحيم، تفتح أبواب تطوان على الجمال والحضارة والتاريخ والكبرياء والعزة..
لكنه الآن في سنواته الأولى هناك يهمه تلمس الطريق وتذكره كي لا يتوه، والاحتراس من الغرباء على طول مشوار الطريق بين (ديور الباليدوس) حيث استقر بداية، وبين ثانوية القاضي عياض حيث يدرس، مرورا بباب النوادر، دون اغفال شارع الجزائر حيث محطة الحافلات التي كان يركبها ذهابا وإيابا من وإلى قريته...
كانت الأيام الأولى في الاعدادية عصيبة ليس لبعده عن الأهل فقط بل لصعوبة الاندماج مع الزملاء (المدينيين)، إذ كل شيء كان مختلفا: العادات والأفكار والألعاب واللهجة، هذه الأخيرة لطالما عرضته للسخرية من طرف زملائه، بحكم اختلاف لهجته القروية الشديد الوضوح..
يتذكر كيف كان خاله يمرنه: " لا تقل كذا وقل كذا.." لكن هيهات الطبع يغلب التطبع، فما هي إلا جمل قليلة حتى تنفلت منه كلمة قروية غريبة عن الزملاء، فينفجرون ضحكا، وهم يطالبونه ساخرين:
" شنو قلتي..!! عاود.. عاود"
الأيام الأولى كانت كافية ليلاحظ عبد الله اختلافات كثيرة بدء من بناية المدرسة، حملته الذكرى ليومه الأول بمدرسته الابتدائية متذكرا كيف كانت مجرد حجرة واحدة في فضاء شاسع لم يضف إليها طوال ست سنين سوى حجرتين اثنتين، وعادت به عينه لتسجيل اللحظة، وهو يتحول للاعدادي، للمدينة، لثانوية القاضي عياض.
#ثانوية_القاضي_عياض بشساعتها وملاعبها ومسبحها الفارغ وحمولتها التاريخية..
ملاحظات عبد الله المقارنة، لم تكن لتخطأ الناس وأحوالهم، لباسهم وطباعهم؛ فإذا كان مشوار الابتدائي الطويل بين الحقول والتلال لا تكاد تصادف فيه إلا القليل من الناس، فترى هناك قرويا يحمل محراثا أو إمرأة تحلب شاة، وقد يزاملك في الطريق راع مع قطيع معز أو ضأن، وكلما مررت برجل لا تنسى أن تحييه:
"كيف اصبحتي أعمي/كيف قيال أعمي" -بحسب الزمن- فالكبار هنا أعمام الجميع..
أما الآن فالمشوار القصير باتجاه الثانوية يعج بالصغار والكبار، بالشيب والشباب، بالنساء والرجال ولا أحد يحيي أحدا إلا المعارف..
لا زال عبد الله يستعيد كل تلك المشاهد التي اختزلتها الذاكرة خلال مرحلتي الابتدائي والإعدادي، كانت تطوان متميزة بالحشمة والوقار حاضرتها وباديتها، ويتجلى ذلك خصوصا في ألبسة النساء، فالقرويات يتميزن باللباس القروي الساتر مع منديلهن الأحمر المخطط وشاشيتهن الجبلية، أما نساء المدينة فالجلباب مع اللثام ميزتهن التي كانت بداية التسعينات تشهد حضورا بارزا لا تكاد تخطئه عين.
في بيته حيث يستقر يعد عبد الله الأيام بل الساعات، متى يأتي السبت، إنه الشوق للقاء الوالدين والإخوة حينها سيتحول لنجم المجلس وهو يحكي مشاهداته لإخوته فيدهشون..
أصبح عبد الله يعيش زمنا دراسيا غير معتاد، إذ كان في قريته يدرس فترة الصباح بعد مشوار طويل يقارب ثلاث كيلومترات مشيا على الأقدام، الآن قصر المشوار وتغير الزمن الدراسي ليتوزع بين الصباح والمساء، كما أن عدد الأساتذة قد ازداد.
هؤلاء الأساتذة تختزل ذاكرة عبد الله بعضهم، فهو رغم مرور السنين يستحضر أستاذ اللغة العربية برأسه الأصلع وحاجبيه الكثيفين، ونظارته التي يسمح لها بالأنسحاب فوق أرنبة أنفه مسترقا النظرات من الأعلى في جنبات الفصل وأوجه التلاميذ ..
كان أستاذ اللغة العربية رجلا مجدا، يمارس مهنته بكثير من الإخلاص، ويمتع الرجل الصغير بحكايات من التراث، ومقاطع من الحكم الشعرية وكان عبد الله يستمع بجدية أكبر كلما شرع الأستاذ الأصلع يقص حكاية، أو ينشد قصيدة.
وذات حصة دخل الفتى القروي في جدال مع أستاذه حول قاعدة من قواعد النحو، فقد كان عبد الله ماهرا في النحو واللغة، وبعفوية وعناد صحح لأستاذه شيئا ما، كان عبد الله ببراءته يتصور أنه سينتبه ويقول له: أحسنت إلا أن الأستاذ لم يقر ما قاله، فازداد عناد عبد الله وأصر أن الأستاذ مخطىء، وانصرم وقت الحصة دون تفاهم بين الاثنين..!
في البيت قلب عبد الله مراجعه وكتبه: " لا لا يمكن أن أكون مخطئا..!! هذا الأستاذ لا يفقه شيئا، ولا يريد أن يعترف"
يرد عليه صديق العمر وزميل الدراسة منذ يومها الأول: " ولكنه الأستاذ إذا جادلته سيجعلك ترسب قل نعم لكل ما يقول"
" لا أبدا لن أفعل..!!"
في اليوم التالي دخل عبد الله فصل العربية متوجسا، قد يحدث ما قاله عبد الرحمن، قد تصير هناك عداوة بينه وبين الأستاذ تحرمه من نقطة عالية في المادة..
وما هي إلا برهة قصيرة حتى دخل الأستاذ يمشي بزهو وتعلو الجدية قسمات وجهه متأبطا كتبه، وعم الصمت القاعة في انتظار أن يأمر بفتح الكتب على صفحة معينة..
تنحنح الأستاذ ثم خاطب الجميع :
"قبل أن نبدأ يجب أن أقول لكم شيئا، إن زميلكم عبد الله كان بالأمس على صواب، ولقد توهمت ووقعت في خطأ..!!"
التفت الجميع باتجاه الفتى القروي الذي شعر بالخجل والفخر معا، بينما حفر أستاذ العربية مكانا راسخا في قلبه لم تمحوه السنين..
على عكس أستاذ اللغة العربية الذي مر معنا بالحلقة السابقة، كانت أستاذة الفرنسية الوجه القبيح الذي تشيح عنه الذاكرة كلما أعاد عبد الله شريط ذكريات بداية التحول من القرية إلى المدينة.
كانت امرأة تقارب الخمسين أو تتجاوزها بقليل، وكان مظهرها بالنسبة للفتى القروي غير ملائم ولا يبعث على الوقار، فهي رغم سنها ترتدي أغلب الاوقات تنورة قصيرة، وتسدل شعرها وتفرط في التعطر، ولم يكن مثل هذا النوع من اللباس مألوفا أو منتشرا لدى التطوانيات وقتها..
امتعاض عبد الله من شكل أستاذته زكته معاملتها معه، فقد عانى منها الأمرين، إذ تصر على اهانته والسخرية من كلامه ولباسه، كما أنها تهمشه وأغلب تلاميذ القسم باستثناء قلة من الزملاء كانوا يحرصون على أخذ ساعات إضافية ببيتها..
الأستاذة التي كان يشبهها بالساحرة الشريرة التي لا يذكر في أي الرسوم المتحركة شاهدها، لم يكن يجد بينهما فرقا سوى تلك المكنسة التي تركبها الساحرة ولا تملكها الأستاذة، بينما كان بعض زملائه يناديها خلسة بشرشبيل بسبب أنفها..
كانت تصر على معاقبته بسبب وبغير سبب!! بل كانت تجعل القصد من العقوبة أن تحرمه من مراجعة وتحضير أي مادة أخرى، فتطلب منه كتابة نص ما ثلاثين مرة أو أربعين أو خمسين، مما يعني سهره معه طوال الليل، حتى يتجنب أن يطرد من قسم الفرنسية صباحا، أو تسخر منه فيصير مادة ضحك لزملائه..
الساحرة الشريرة ستدرك في وقت متأخر أنها أخطأت في حقه كثيرا، وستطلب منه ذات حفل نظم في نهاية موسم أن يسامحها محتضنة إياه وطابعة قبلة حانية على جبينه أمام الجميع..
لم يتفوه عبد الله بكلمة السماح وتاه مع غرابة المشهد، لم يصدق أن شرشبيل قد تطلب منه السماح يوما..
رجل صغير
لا زال عبد الله يسترجع بحنين وفرح، بدايات الاكتشاف للمرحلة الدراسية الجديدة، وقد استجدت فيها أمور لم يألفها، وأشخاص لم يعتد وجودهم.
مما استجد عليه في المرحلة الإعدادية حصة الرياضة. لقد كانت مرحلة الابتدائي خالية منها وإن كانت في الواقع رياضة كلها، إذ كان المشي لما يقارب الساعتين يوميا أكثر من كاف للحفاظ على اللياقة، فضلا عن تسلق الأشجار ومطاردة العصافير..
استرجاع الذاكرة لحصة الرياضة يأخذه للتأمل في صورة رسخت بذهنه وعاطفته، إنها ملامح أستاذه الأول في المادة، الرجل الطويل الرياضي البنية، الرجل المناسب في المكان المناسب..
كان أستاذ الرياضة يحرص أيما حرص على القيام بواجبه كمدرب فعلي محب لعمله، في الوقت الذي يكتفي فيه غيره بمنح كرة للتلاميذ وترك الحبل لهم على الغارب..
هذا الأستاذ صفع عبد الله يوما، لكنها ظلت صفعة محببة له بعد حين، إذ كان القصد منها تعليمه، وكان الأستاذ مصرا على تدريبه والرقي بمستواه، يركز في كل حصة على دفع باقي التلاميذ للتعامل مع عبد الله بكثرة قصد طرد الخوف عنه، وتعليمه كيفية التعامل مع كل موقف معين في كل الرياضات التي مرنهم عليها.
ذكر الرياضة يحيل عبد الله على جزء آخر من هواياته، فبقدر ما سيتعلق بالكتب والمطالعة سيكون شغوفا بل مهوسا جدا بكرة القدم متابعة وممارسة..
هذا الشغف رباه فيه أستاذه المذكور، وخاله الذي كان يصحبه معه أحيانا إلى ملاعب الملاليين، مصرا على هامش المباريات أن يعلمه أبجديات الكرة، حتى يستلم الكرات بثقة ويمررها باتقان، كما كان يصحبه أحيانا أخرى إلى مقهى الاتحاد لأجل متابعة لقاءات (الليغا)...
بعيدا عن الرياضة وأستاذها كان هناك أستاذ الاجتماعيات، الرجل المهوس بمشروعه الصحفي وأحداث السياسة.
ارتبط درس الاجتماعيات بجناحين متوازيين هما التاريخ والجغرافيا، وعلى قدر ما كان عبد الله لا يهتم بالجغرافيا كان مهوسا بالتاريخ، وقد اختزلت ذاكرته تاريخا شفهيا غير مدون، أقرب إلى الفانتازيا اعتاد أن يمتعه به جده آخذا إياه إلى أربعينيات القرن الماضي، زمن الاستعمار والحاجة..
التاريخ في الكتب غير التاريخ في الذاكرة، لاحقا مع مرور العمر سيصبح شبه مقتنع أنهم تعمدوا ترك الأحداث والوقائع في زوايا مظلمة يعلوها الغبار، وشحنوا كتبنا الدراسية بالهوامش والزور والأبطال الوهميين..
المهم تعلق بذاكرته صورة أستاذ الاجتماعيات الذي كان محبوبا للفصل، لأنه يغيب كثيرا، إذ غالب حصص الاجتماعيات تصبح حصص تسكع ولعب، وإن حدث وحضر الأستاذ تتحول الحصة لحديث طويل عريض حول مشروعه الصحفي،(كان مدير صحيفة) متباهيا بما كشفه في عدده الجديد، أو ما سيخطه في العدد القادم..
وربما تحول الفصل لساحة تحليل سياسي، يتناول حصار العراق والانتفاضة الفلسطينية، معرجا على قضية الصحراء وهمسات خافتة من الأستاذ - مخافة آذان الحائط - عن تهميش ممنهج للشمال..
كل هذا كان أكبر من وعي التلاميذ، لكنهم كانوا يستمتعون به، وتزدهي صورة الأستاذ أمام أعينهم فيبدو لهم صحافيا متميزا.!!، ومثقفا كبيرا..!!، وسياسيا عارفا بخبايا الأمور..!!.
يسترجع عبد الله بمعية عبد الرحمن ثناء الأستاذ عليه، وتقريبه إليه، بل واعجابه به حيث كان الفتى القروي يبادره بذكر بعض الأسماء التاريخية، أو بعض الأحداث العاجلة مما يستغرب من طفل في مثل سنه. كما أن عبد الله أحب هذا الأستاذ رغم تغيباته المتكررة، فقد وجد في حصصه - على قلتها- أمورا أخرى تثري الذاكرة، غير تلك التي يضمها الكتاب المدرسي خاصة وأن أساتذة كثر كانت حصتهم عبارة عن:
"قرا انت....حسن؛ قرا انت......مزيان"
"صافي باركا ديرو التمارين فالدار"...!!!!
توالت الأيام وأصبح عبد الله يعتاد تدريجيا الوسط الجديد، والحياة الجديدة، والأشخاص الجدد..
هكذا يسترجع عبد الله نوستالجيا الزمن الجميل، وتلك الأيام التي قضاها متنقلا بين حواري تطوان وأزقتها..
تطوان رنة جميلة في أذن من يسمعها، وعبق فواح في ذاكرة من مر منها أو قطنها، وهي كذلك لعبد الله لا تفارق مخيلته دروبها وأبوابها، وخاصة زمن الطفولة حين كانت عيناه تحتفظان بكل الصور، وأذناه تلتقط الأصوات جميعها، يستدعي من ذاكرته سحنات بائع "الكلنتي"، و صاحب "حلي"، والرجل الذي يبيع الكتب قرب المكتبة العامة، وقد تعود عبد الله وقتها أن يقتني منه أعدادا قديمة من مجلات الأطفال والروايات المختلفة..
أيام قليلة بعد انطلاق الموسم الدراسي الأول بالمدينة توطدت علاقة عبد الله وزميله عبد الرحمن بصديق ثالث (مديني) إسمه عادل، كان ولدا نشيطا مفعما بالحيوية عاش طفولة أخرى، كانت الأنشودة تحتل الكلمات المتسربة عبر شفتيه الصغيرتين، فهو ينشد.. وينشد.. وينشد.. خاصة الأناشيد الممجدة لكتائب عز الدين القسام..
عادل كان يعرف قليلا من الإسبانية، وذات مشوار ثلاثي مع عبد الله وعبد الرحمن بلغو طفولي تغلفه البراءة، وإثر وصول الثلاثة قرب مدرسة "خسنتو" الاسبانية، أوعز عادل لعبد الرحمن أن يدخل من الباب، ويقول كلمة إسبانية للحارس الاسباني الذي تجاوز الخمسين..
تقدم عبد الرحمن بثقة نحو العجوز، وألقى الكلمة في وجهه بثقة، ليلاحظ غضبا فوارا في وجهه وهو يهم بالتقاط عكاز لضربه، فأطلق ساقيه للريح، بينما أمسك عادل وعبد الله بطنيهما من شدة الضحك، لقد كانت الكلمة بذيئة للغاية، إلى حد جعل الرجل الخمسيني يستشيط غضبا...
القسم كان مختلطا، وهو أمر معتاد بالنسبة للتلاميذ، لكن الذي لم يكن عاديا بالنسبة لهم كأطفال يطلون على بداية البلوغ أن تزاملهم فتاة تبالغ في الزينة والمكياج وتبدو أكبر منهم سنا، لكنها كانت تشكل حلما لأغلبهم، كلهم يتمنى منها كلمة أو نظرة، وقد اتفقوا أن يسموها: سنفورة وصارت جمل الأبالسة منهم لا تتجاوز :"قالت السنفورة""أتت السنفورة""سأقول للسنفورة"
عبد الله كان يتابع الحدث بهدوء، غير مكترث به، لكنه ومن دون سبب كان يحتقر تلك الزميلة، وهو أمر مغاير تماما لزميله حسين الذي أحبها لدرجة أنه أصبح يفتعل شجارا عنيفا مع أي شخص ينطق كلمة السنفورة، مما جعله محط سخرية من الزملاء كلما رأوه استقبلوه جمعا بشعار:
" نحن السنافر ..نحن السنافر
وجد عبد الله نفسه في وسط الصراع الدائر بين جل الزملاء من جهة، وبين حسين من جهة ثانية بسبب السنفورة، فهو ليس من النوع الذي تستهويه السخرية حتى ينضم لزمرة الساخرين، كما أنه ليس من المعجبين بسنفورة الفصل ليؤيد حسين، ويتحالف معه في معركته ضد البقية، هذا إن لم يكن أشد الناس امتعاضا منها، ومن عطرها الرديء الذي يخنقه، خاصة وأنها تجلس بالطاولة المجاورة لطاولته في أغلب الحصص.
يصير حسين مشدوها كلما رآها، يتأمل مشيتها من خلف نظارته السميكة، ويبسم كلما نظرت إليه، والزملاء أثناء الدرس يخزون بعضهم أو يتغامزون عليه، بينما يأسف عبد الله لأجله، فإذا خرج الأستاذ من الفصل استجابة لنداء المدير، أو لسبب آخر وزع أبالسة القسم الكلمة بينهم ،ونطق كل منهم حرفا: س.. ن.. فو.. ر.. ة، ثم انفجروا ضحكا واحتقن وجه حسين مع عجزه عن الرد، بينما تبتسم البطلة التي كانت تبدو في عالم آخر غير عالمهم، وكأنها شابة ناضجة بين صبيان، تهتم بتغيير متواصل للباسها وتسريحات شعرها، وما أن يرن الجرس حتى تسبق الجميع مستعجلة، وكأن حبيبا ما في مكان ما ينتظر..
هاته القصة مما يجتاح مخيلة عبد الله كلما استعادت ذاكرته تلك المرحلة، تجتاح مخيلته فيعجب أشد العجب ليس من براءة الطفولة ولهوها التي ميزت تعلق حسين بها، و لا من إصرار الزملاء على السخرية من زميلهم المحب، بل من امتعاضه غير المبرر من تلك الزميلة، وهو ما لا يستطيع الآن أن يجد له تبريرا. عكس امتعاضه من زميلة أخرى كانت بدينة قصيرة،(*) واستغلت خجله الشديد لتسخر منه مدعية حبه، طالبة وده..
البدينة جعلت عبد الله يمتعض أشد الامتعاض، ويخرج عن طوره وحشمته، فعلى قدر ما تميز بالوقار كانت لحظات غضبه أشبه بانفجار بركان يحرق بحممه كل شيء، وهو الأمر الذي وضع حدا لتطاول الزميلة، إذ سبها سبا بذيئا، وأمعن في تحقيرها واهانتها أمام الفصل كله جاعلا عبارة (الدبة) تمييزا لها بين كل شتيمة وأخرى ، ففغر الجميع أفواههم متعجبين:" عبد الله يقول هذا الشي كامل"،
وبكت البدينة بينما علت حمرة الخجل وجهها ربما لأول مرة في حياتها
_________
(*) البدينة القصيرة في النص وصف فقط وليس انتقاصا من البدينات القصيرا
بعيدا عن "السنفورة" و "الدبة" اعتاد عبد الله الشكل الجديد للحياة، وصار يمارس أعمالا ليس من المألوف ممارستها ممن هم في مثل سنه، لقد أخذ بداية يعد بعض وجباته بنفسه، ويحرص على ترتيب مكان نومه، وربما قام من حين لآخر بغسل الملابس أيضا..
الأسلوب الجديد للحياة سيجعله من زوار سوق الخضر قرب باب النوادر، ليعتاد التسوق ويكتسب خبرة مبكرة في معرفة الطري والطازج من الخضر والفواكه والأسماك، سيحس نفسه حينها رجلا مسؤولا، ويتعلم كيف يدبر التصرف في المصروف الذي يمنحه إياه والده بداية كل أسبوع، هذا التدبير تختل موازنه كلما أعجبته مجلة أو قصة، فقد شغف من وقتها بالكتب والمجلات والقصص التي تربى على الحياة معها، بل اكتسب صداقات افتراضية قبل زمن الهاتف والانترنت مع أبطال تلك القصص، حتى ولجت أحلامه ومخيلته فتلقاه شارد الذهن متخيلا ما يمكن أن يحدث في الحلقات المرتقبة في الأعداد القادمة.
وبين المدرسة والبيت والسوق كان الحنين يشده للأم والإخوة، فلم يكن طوال الأسبوع يرى سوى والده الذي يلقاه بمقهى في وسط المدينة بساحة (بلاصا بريمو) كل ثلاثاء وجمعة، فيفرغ عليه لواعجه وهمومه، ويحدثه عن أحداث القسم وآراء الأساتذة، هذا الروتين يكسره من حين الى حين فجأة إذا صادفته حافلة من حافلات شانة المتجهة إلى (سبيراد) قرب (خسينتو) فيتعلق بها طالبا من عبد الرحمن أن يخبر من في البيت أنه ذهب إلى الجبل..وإلا فإن الذهاب غالبا لم يكن يحدث إلا مساء السبت، حينها كان وصوله لمراتع صباه حدثا فريدا للأسرة ككل، فالأم تسأل عن الحال والصحة والأكل واللباس وتتفقد كل صغيرة وكبيرة، والأب يسأل عن السير الدراسي وأحوال الأساتذة ومستواهم ثم يقدم له دعما في عدد من التمارين والواجبات..
أما الاخوة فينتظرون دورهم بشغف حتى يتكلم عبد الله ساردا العجائب والمدهشات، راويا الحكايا والفكاهات وكأنه ابن بطوطة عاد من بلاد بعيدة..!!
يتبع..
#مراتع_الصبا
محمد أكزناي
- 1 -
تحول عبد الله من مرحلة التعليم الابتدائي إلى المرحلة الإعدادية، شكل تحولا جذريا في الطفل الذي كانه، تحولا شمل سياق الأحداث وأمكنتها، وكانت أول نقطة للتحول الإمتحان الموحد الذي أجري بعيدا عن مدرسته الفرعية بالمركز بخميس أنجرة..يتذكر يوم الامتحان فيتبسم عندما يجول في خاطره أنه أول يوم اكتشف فيه الأيس كريم فقضمه بأسنانه وسط ضحكات الزملاء..
نجح عبد الله وتغير مكان الدراسة، وفضاء الحياة من البادية بطبيعتها وشساعتها إلى المدينة باسمنتها وضيقها، تغيرت الروائح من عبق الأزهار والخزامى والزعتر إلى أدخنة السيارات والمعامل، وتغيرت الأصداء المرافقة من سمفونية الطبيعة إلى ضجيج المدينة، لكن التحول الأصعب تحملا كان الانتقال من ألفة الأسرة إلى الغربة، من تجمع الوالدين والإخوة إلى وحدة وسط الآخرين..
قضى ليلته الأولى بعيدا عنهم من غير نوم، يسمع من حين لآخر عربدة سكير أو صوت سيارة بينما اعتاد أن يسمع ليلا نباح الكلاب وصوت الطبيعة، أما أمه فقضت تلك الليلة باكية، إنها أول ليلة يقضيها بكرها بعيدا عن المنزل..
كانت تطوان التي انتقل اليها عبد الله بداية التسعينات حكاية أخرى، فمعلوم أنها مدينة حضارية بامتياز فضلا عن أنها مدينة العلم والعلماء والشعر والشعراء..
لاحقا مع النضج وتقدم العمر سيكتشف عبد الله أن القاسم المشترك بين تطوان وجهنم هو عدد الأبواب، لكنه عدد فقط يعبر عن التباين لا التقارب، والتنافر لا التشابه، فبمقدار ما تفتح أبواب جهنم على الجحيم، تفتح أبواب تطوان على الجمال والحضارة والتاريخ والكبرياء والعزة..
لكنه الآن في سنواته الأولى هناك يهمه تلمس الطريق وتذكره كي لا يتوه، والاحتراس من الغرباء على طول مشوار الطريق بين (ديور الباليدوس) حيث استقر بداية، وبين ثانوية القاضي عياض حيث يدرس، مرورا بباب النوادر، دون اغفال شارع الجزائر حيث محطة الحافلات التي كان يركبها ذهابا وإيابا من وإلى قريته...
كانت الأيام الأولى في الاعدادية عصيبة ليس لبعده عن الأهل فقط بل لصعوبة الاندماج مع الزملاء (المدينيين)، إذ كل شيء كان مختلفا: العادات والأفكار والألعاب واللهجة، هذه الأخيرة لطالما عرضته للسخرية من طرف زملائه، بحكم اختلاف لهجته القروية الشديد الوضوح..
يتذكر كيف كان خاله يمرنه: " لا تقل كذا وقل كذا.." لكن هيهات الطبع يغلب التطبع، فما هي إلا جمل قليلة حتى تنفلت منه كلمة قروية غريبة عن الزملاء، فينفجرون ضحكا، وهم يطالبونه ساخرين:
" شنو قلتي..!! عاود.. عاود"
الأيام الأولى كانت كافية ليلاحظ عبد الله اختلافات كثيرة بدء من بناية المدرسة، حملته الذكرى ليومه الأول بمدرسته الابتدائية متذكرا كيف كانت مجرد حجرة واحدة في فضاء شاسع لم يضف إليها طوال ست سنين سوى حجرتين اثنتين، وعادت به عينه لتسجيل اللحظة، وهو يتحول للاعدادي، للمدينة، لثانوية القاضي عياض.
#ثانوية_القاضي_عياض بشساعتها وملاعبها ومسبحها الفارغ وحمولتها التاريخية..
ملاحظات عبد الله المقارنة، لم تكن لتخطأ الناس وأحوالهم، لباسهم وطباعهم؛ فإذا كان مشوار الابتدائي الطويل بين الحقول والتلال لا تكاد تصادف فيه إلا القليل من الناس، فترى هناك قرويا يحمل محراثا أو إمرأة تحلب شاة، وقد يزاملك في الطريق راع مع قطيع معز أو ضأن، وكلما مررت برجل لا تنسى أن تحييه:
"كيف اصبحتي أعمي/كيف قيال أعمي" -بحسب الزمن- فالكبار هنا أعمام الجميع..
أما الآن فالمشوار القصير باتجاه الثانوية يعج بالصغار والكبار، بالشيب والشباب، بالنساء والرجال ولا أحد يحيي أحدا إلا المعارف..
لا زال عبد الله يستعيد كل تلك المشاهد التي اختزلتها الذاكرة خلال مرحلتي الابتدائي والإعدادي، كانت تطوان متميزة بالحشمة والوقار حاضرتها وباديتها، ويتجلى ذلك خصوصا في ألبسة النساء، فالقرويات يتميزن باللباس القروي الساتر مع منديلهن الأحمر المخطط وشاشيتهن الجبلية، أما نساء المدينة فالجلباب مع اللثام ميزتهن التي كانت بداية التسعينات تشهد حضورا بارزا لا تكاد تخطئه عين.
في بيته حيث يستقر يعد عبد الله الأيام بل الساعات، متى يأتي السبت، إنه الشوق للقاء الوالدين والإخوة حينها سيتحول لنجم المجلس وهو يحكي مشاهداته لإخوته فيدهشون..
أصبح عبد الله يعيش زمنا دراسيا غير معتاد، إذ كان في قريته يدرس فترة الصباح بعد مشوار طويل يقارب ثلاث كيلومترات مشيا على الأقدام، الآن قصر المشوار وتغير الزمن الدراسي ليتوزع بين الصباح والمساء، كما أن عدد الأساتذة قد ازداد.
هؤلاء الأساتذة تختزل ذاكرة عبد الله بعضهم، فهو رغم مرور السنين يستحضر أستاذ اللغة العربية برأسه الأصلع وحاجبيه الكثيفين، ونظارته التي يسمح لها بالأنسحاب فوق أرنبة أنفه مسترقا النظرات من الأعلى في جنبات الفصل وأوجه التلاميذ ..
كان أستاذ اللغة العربية رجلا مجدا، يمارس مهنته بكثير من الإخلاص، ويمتع الرجل الصغير بحكايات من التراث، ومقاطع من الحكم الشعرية وكان عبد الله يستمع بجدية أكبر كلما شرع الأستاذ الأصلع يقص حكاية، أو ينشد قصيدة.
وذات حصة دخل الفتى القروي في جدال مع أستاذه حول قاعدة من قواعد النحو، فقد كان عبد الله ماهرا في النحو واللغة، وبعفوية وعناد صحح لأستاذه شيئا ما، كان عبد الله ببراءته يتصور أنه سينتبه ويقول له: أحسنت إلا أن الأستاذ لم يقر ما قاله، فازداد عناد عبد الله وأصر أن الأستاذ مخطىء، وانصرم وقت الحصة دون تفاهم بين الاثنين..!
في البيت قلب عبد الله مراجعه وكتبه: " لا لا يمكن أن أكون مخطئا..!! هذا الأستاذ لا يفقه شيئا، ولا يريد أن يعترف"
يرد عليه صديق العمر وزميل الدراسة منذ يومها الأول: " ولكنه الأستاذ إذا جادلته سيجعلك ترسب قل نعم لكل ما يقول"
" لا أبدا لن أفعل..!!"
في اليوم التالي دخل عبد الله فصل العربية متوجسا، قد يحدث ما قاله عبد الرحمن، قد تصير هناك عداوة بينه وبين الأستاذ تحرمه من نقطة عالية في المادة..
وما هي إلا برهة قصيرة حتى دخل الأستاذ يمشي بزهو وتعلو الجدية قسمات وجهه متأبطا كتبه، وعم الصمت القاعة في انتظار أن يأمر بفتح الكتب على صفحة معينة..
تنحنح الأستاذ ثم خاطب الجميع :
"قبل أن نبدأ يجب أن أقول لكم شيئا، إن زميلكم عبد الله كان بالأمس على صواب، ولقد توهمت ووقعت في خطأ..!!"
التفت الجميع باتجاه الفتى القروي الذي شعر بالخجل والفخر معا، بينما حفر أستاذ العربية مكانا راسخا في قلبه لم تمحوه السنين..
على عكس أستاذ اللغة العربية الذي مر معنا بالحلقة السابقة، كانت أستاذة الفرنسية الوجه القبيح الذي تشيح عنه الذاكرة كلما أعاد عبد الله شريط ذكريات بداية التحول من القرية إلى المدينة.
كانت امرأة تقارب الخمسين أو تتجاوزها بقليل، وكان مظهرها بالنسبة للفتى القروي غير ملائم ولا يبعث على الوقار، فهي رغم سنها ترتدي أغلب الاوقات تنورة قصيرة، وتسدل شعرها وتفرط في التعطر، ولم يكن مثل هذا النوع من اللباس مألوفا أو منتشرا لدى التطوانيات وقتها..
امتعاض عبد الله من شكل أستاذته زكته معاملتها معه، فقد عانى منها الأمرين، إذ تصر على اهانته والسخرية من كلامه ولباسه، كما أنها تهمشه وأغلب تلاميذ القسم باستثناء قلة من الزملاء كانوا يحرصون على أخذ ساعات إضافية ببيتها..
الأستاذة التي كان يشبهها بالساحرة الشريرة التي لا يذكر في أي الرسوم المتحركة شاهدها، لم يكن يجد بينهما فرقا سوى تلك المكنسة التي تركبها الساحرة ولا تملكها الأستاذة، بينما كان بعض زملائه يناديها خلسة بشرشبيل بسبب أنفها..
كانت تصر على معاقبته بسبب وبغير سبب!! بل كانت تجعل القصد من العقوبة أن تحرمه من مراجعة وتحضير أي مادة أخرى، فتطلب منه كتابة نص ما ثلاثين مرة أو أربعين أو خمسين، مما يعني سهره معه طوال الليل، حتى يتجنب أن يطرد من قسم الفرنسية صباحا، أو تسخر منه فيصير مادة ضحك لزملائه..
الساحرة الشريرة ستدرك في وقت متأخر أنها أخطأت في حقه كثيرا، وستطلب منه ذات حفل نظم في نهاية موسم أن يسامحها محتضنة إياه وطابعة قبلة حانية على جبينه أمام الجميع..
لم يتفوه عبد الله بكلمة السماح وتاه مع غرابة المشهد، لم يصدق أن شرشبيل قد تطلب منه السماح يوما..
رجل صغير
لا زال عبد الله يسترجع بحنين وفرح، بدايات الاكتشاف للمرحلة الدراسية الجديدة، وقد استجدت فيها أمور لم يألفها، وأشخاص لم يعتد وجودهم.
مما استجد عليه في المرحلة الإعدادية حصة الرياضة. لقد كانت مرحلة الابتدائي خالية منها وإن كانت في الواقع رياضة كلها، إذ كان المشي لما يقارب الساعتين يوميا أكثر من كاف للحفاظ على اللياقة، فضلا عن تسلق الأشجار ومطاردة العصافير..
استرجاع الذاكرة لحصة الرياضة يأخذه للتأمل في صورة رسخت بذهنه وعاطفته، إنها ملامح أستاذه الأول في المادة، الرجل الطويل الرياضي البنية، الرجل المناسب في المكان المناسب..
كان أستاذ الرياضة يحرص أيما حرص على القيام بواجبه كمدرب فعلي محب لعمله، في الوقت الذي يكتفي فيه غيره بمنح كرة للتلاميذ وترك الحبل لهم على الغارب..
هذا الأستاذ صفع عبد الله يوما، لكنها ظلت صفعة محببة له بعد حين، إذ كان القصد منها تعليمه، وكان الأستاذ مصرا على تدريبه والرقي بمستواه، يركز في كل حصة على دفع باقي التلاميذ للتعامل مع عبد الله بكثرة قصد طرد الخوف عنه، وتعليمه كيفية التعامل مع كل موقف معين في كل الرياضات التي مرنهم عليها.
ذكر الرياضة يحيل عبد الله على جزء آخر من هواياته، فبقدر ما سيتعلق بالكتب والمطالعة سيكون شغوفا بل مهوسا جدا بكرة القدم متابعة وممارسة..
هذا الشغف رباه فيه أستاذه المذكور، وخاله الذي كان يصحبه معه أحيانا إلى ملاعب الملاليين، مصرا على هامش المباريات أن يعلمه أبجديات الكرة، حتى يستلم الكرات بثقة ويمررها باتقان، كما كان يصحبه أحيانا أخرى إلى مقهى الاتحاد لأجل متابعة لقاءات (الليغا)...
بعيدا عن الرياضة وأستاذها كان هناك أستاذ الاجتماعيات، الرجل المهوس بمشروعه الصحفي وأحداث السياسة.
ارتبط درس الاجتماعيات بجناحين متوازيين هما التاريخ والجغرافيا، وعلى قدر ما كان عبد الله لا يهتم بالجغرافيا كان مهوسا بالتاريخ، وقد اختزلت ذاكرته تاريخا شفهيا غير مدون، أقرب إلى الفانتازيا اعتاد أن يمتعه به جده آخذا إياه إلى أربعينيات القرن الماضي، زمن الاستعمار والحاجة..
التاريخ في الكتب غير التاريخ في الذاكرة، لاحقا مع مرور العمر سيصبح شبه مقتنع أنهم تعمدوا ترك الأحداث والوقائع في زوايا مظلمة يعلوها الغبار، وشحنوا كتبنا الدراسية بالهوامش والزور والأبطال الوهميين..
المهم تعلق بذاكرته صورة أستاذ الاجتماعيات الذي كان محبوبا للفصل، لأنه يغيب كثيرا، إذ غالب حصص الاجتماعيات تصبح حصص تسكع ولعب، وإن حدث وحضر الأستاذ تتحول الحصة لحديث طويل عريض حول مشروعه الصحفي،(كان مدير صحيفة) متباهيا بما كشفه في عدده الجديد، أو ما سيخطه في العدد القادم..
وربما تحول الفصل لساحة تحليل سياسي، يتناول حصار العراق والانتفاضة الفلسطينية، معرجا على قضية الصحراء وهمسات خافتة من الأستاذ - مخافة آذان الحائط - عن تهميش ممنهج للشمال..
كل هذا كان أكبر من وعي التلاميذ، لكنهم كانوا يستمتعون به، وتزدهي صورة الأستاذ أمام أعينهم فيبدو لهم صحافيا متميزا.!!، ومثقفا كبيرا..!!، وسياسيا عارفا بخبايا الأمور..!!.
يسترجع عبد الله بمعية عبد الرحمن ثناء الأستاذ عليه، وتقريبه إليه، بل واعجابه به حيث كان الفتى القروي يبادره بذكر بعض الأسماء التاريخية، أو بعض الأحداث العاجلة مما يستغرب من طفل في مثل سنه. كما أن عبد الله أحب هذا الأستاذ رغم تغيباته المتكررة، فقد وجد في حصصه - على قلتها- أمورا أخرى تثري الذاكرة، غير تلك التي يضمها الكتاب المدرسي خاصة وأن أساتذة كثر كانت حصتهم عبارة عن:
"قرا انت....حسن؛ قرا انت......مزيان"
"صافي باركا ديرو التمارين فالدار"...!!!!
توالت الأيام وأصبح عبد الله يعتاد تدريجيا الوسط الجديد، والحياة الجديدة، والأشخاص الجدد..
هكذا يسترجع عبد الله نوستالجيا الزمن الجميل، وتلك الأيام التي قضاها متنقلا بين حواري تطوان وأزقتها..
تطوان رنة جميلة في أذن من يسمعها، وعبق فواح في ذاكرة من مر منها أو قطنها، وهي كذلك لعبد الله لا تفارق مخيلته دروبها وأبوابها، وخاصة زمن الطفولة حين كانت عيناه تحتفظان بكل الصور، وأذناه تلتقط الأصوات جميعها، يستدعي من ذاكرته سحنات بائع "الكلنتي"، و صاحب "حلي"، والرجل الذي يبيع الكتب قرب المكتبة العامة، وقد تعود عبد الله وقتها أن يقتني منه أعدادا قديمة من مجلات الأطفال والروايات المختلفة..
أيام قليلة بعد انطلاق الموسم الدراسي الأول بالمدينة توطدت علاقة عبد الله وزميله عبد الرحمن بصديق ثالث (مديني) إسمه عادل، كان ولدا نشيطا مفعما بالحيوية عاش طفولة أخرى، كانت الأنشودة تحتل الكلمات المتسربة عبر شفتيه الصغيرتين، فهو ينشد.. وينشد.. وينشد.. خاصة الأناشيد الممجدة لكتائب عز الدين القسام..
عادل كان يعرف قليلا من الإسبانية، وذات مشوار ثلاثي مع عبد الله وعبد الرحمن بلغو طفولي تغلفه البراءة، وإثر وصول الثلاثة قرب مدرسة "خسنتو" الاسبانية، أوعز عادل لعبد الرحمن أن يدخل من الباب، ويقول كلمة إسبانية للحارس الاسباني الذي تجاوز الخمسين..
تقدم عبد الرحمن بثقة نحو العجوز، وألقى الكلمة في وجهه بثقة، ليلاحظ غضبا فوارا في وجهه وهو يهم بالتقاط عكاز لضربه، فأطلق ساقيه للريح، بينما أمسك عادل وعبد الله بطنيهما من شدة الضحك، لقد كانت الكلمة بذيئة للغاية، إلى حد جعل الرجل الخمسيني يستشيط غضبا...
القسم كان مختلطا، وهو أمر معتاد بالنسبة للتلاميذ، لكن الذي لم يكن عاديا بالنسبة لهم كأطفال يطلون على بداية البلوغ أن تزاملهم فتاة تبالغ في الزينة والمكياج وتبدو أكبر منهم سنا، لكنها كانت تشكل حلما لأغلبهم، كلهم يتمنى منها كلمة أو نظرة، وقد اتفقوا أن يسموها: سنفورة وصارت جمل الأبالسة منهم لا تتجاوز :"قالت السنفورة""أتت السنفورة""سأقول للسنفورة"
عبد الله كان يتابع الحدث بهدوء، غير مكترث به، لكنه ومن دون سبب كان يحتقر تلك الزميلة، وهو أمر مغاير تماما لزميله حسين الذي أحبها لدرجة أنه أصبح يفتعل شجارا عنيفا مع أي شخص ينطق كلمة السنفورة، مما جعله محط سخرية من الزملاء كلما رأوه استقبلوه جمعا بشعار:
" نحن السنافر ..نحن السنافر
وجد عبد الله نفسه في وسط الصراع الدائر بين جل الزملاء من جهة، وبين حسين من جهة ثانية بسبب السنفورة، فهو ليس من النوع الذي تستهويه السخرية حتى ينضم لزمرة الساخرين، كما أنه ليس من المعجبين بسنفورة الفصل ليؤيد حسين، ويتحالف معه في معركته ضد البقية، هذا إن لم يكن أشد الناس امتعاضا منها، ومن عطرها الرديء الذي يخنقه، خاصة وأنها تجلس بالطاولة المجاورة لطاولته في أغلب الحصص.
يصير حسين مشدوها كلما رآها، يتأمل مشيتها من خلف نظارته السميكة، ويبسم كلما نظرت إليه، والزملاء أثناء الدرس يخزون بعضهم أو يتغامزون عليه، بينما يأسف عبد الله لأجله، فإذا خرج الأستاذ من الفصل استجابة لنداء المدير، أو لسبب آخر وزع أبالسة القسم الكلمة بينهم ،ونطق كل منهم حرفا: س.. ن.. فو.. ر.. ة، ثم انفجروا ضحكا واحتقن وجه حسين مع عجزه عن الرد، بينما تبتسم البطلة التي كانت تبدو في عالم آخر غير عالمهم، وكأنها شابة ناضجة بين صبيان، تهتم بتغيير متواصل للباسها وتسريحات شعرها، وما أن يرن الجرس حتى تسبق الجميع مستعجلة، وكأن حبيبا ما في مكان ما ينتظر..
هاته القصة مما يجتاح مخيلة عبد الله كلما استعادت ذاكرته تلك المرحلة، تجتاح مخيلته فيعجب أشد العجب ليس من براءة الطفولة ولهوها التي ميزت تعلق حسين بها، و لا من إصرار الزملاء على السخرية من زميلهم المحب، بل من امتعاضه غير المبرر من تلك الزميلة، وهو ما لا يستطيع الآن أن يجد له تبريرا. عكس امتعاضه من زميلة أخرى كانت بدينة قصيرة،(*) واستغلت خجله الشديد لتسخر منه مدعية حبه، طالبة وده..
البدينة جعلت عبد الله يمتعض أشد الامتعاض، ويخرج عن طوره وحشمته، فعلى قدر ما تميز بالوقار كانت لحظات غضبه أشبه بانفجار بركان يحرق بحممه كل شيء، وهو الأمر الذي وضع حدا لتطاول الزميلة، إذ سبها سبا بذيئا، وأمعن في تحقيرها واهانتها أمام الفصل كله جاعلا عبارة (الدبة) تمييزا لها بين كل شتيمة وأخرى ، ففغر الجميع أفواههم متعجبين:" عبد الله يقول هذا الشي كامل"،
وبكت البدينة بينما علت حمرة الخجل وجهها ربما لأول مرة في حياتها
_________
(*) البدينة القصيرة في النص وصف فقط وليس انتقاصا من البدينات القصيرا
بعيدا عن "السنفورة" و "الدبة" اعتاد عبد الله الشكل الجديد للحياة، وصار يمارس أعمالا ليس من المألوف ممارستها ممن هم في مثل سنه، لقد أخذ بداية يعد بعض وجباته بنفسه، ويحرص على ترتيب مكان نومه، وربما قام من حين لآخر بغسل الملابس أيضا..
الأسلوب الجديد للحياة سيجعله من زوار سوق الخضر قرب باب النوادر، ليعتاد التسوق ويكتسب خبرة مبكرة في معرفة الطري والطازج من الخضر والفواكه والأسماك، سيحس نفسه حينها رجلا مسؤولا، ويتعلم كيف يدبر التصرف في المصروف الذي يمنحه إياه والده بداية كل أسبوع، هذا التدبير تختل موازنه كلما أعجبته مجلة أو قصة، فقد شغف من وقتها بالكتب والمجلات والقصص التي تربى على الحياة معها، بل اكتسب صداقات افتراضية قبل زمن الهاتف والانترنت مع أبطال تلك القصص، حتى ولجت أحلامه ومخيلته فتلقاه شارد الذهن متخيلا ما يمكن أن يحدث في الحلقات المرتقبة في الأعداد القادمة.
وبين المدرسة والبيت والسوق كان الحنين يشده للأم والإخوة، فلم يكن طوال الأسبوع يرى سوى والده الذي يلقاه بمقهى في وسط المدينة بساحة (بلاصا بريمو) كل ثلاثاء وجمعة، فيفرغ عليه لواعجه وهمومه، ويحدثه عن أحداث القسم وآراء الأساتذة، هذا الروتين يكسره من حين الى حين فجأة إذا صادفته حافلة من حافلات شانة المتجهة إلى (سبيراد) قرب (خسينتو) فيتعلق بها طالبا من عبد الرحمن أن يخبر من في البيت أنه ذهب إلى الجبل..وإلا فإن الذهاب غالبا لم يكن يحدث إلا مساء السبت، حينها كان وصوله لمراتع صباه حدثا فريدا للأسرة ككل، فالأم تسأل عن الحال والصحة والأكل واللباس وتتفقد كل صغيرة وكبيرة، والأب يسأل عن السير الدراسي وأحوال الأساتذة ومستواهم ثم يقدم له دعما في عدد من التمارين والواجبات..
أما الاخوة فينتظرون دورهم بشغف حتى يتكلم عبد الله ساردا العجائب والمدهشات، راويا الحكايا والفكاهات وكأنه ابن بطوطة عاد من بلاد بعيدة..!!
يتبع..
#مراتع_الصبا
محمد أكزناي
تعليقات
إرسال تعليق